2017/08/29

تجاعيد الوفاء بقلم: عبد القادر صيد

تجاعيد الوفاء
 عبد القادر صيد
 في صالون معرض لرسام مشهور تتجول أربعينية بخطى تدوس بتشف شديد على بيض السآمة ، لا تخلو مشيتها من كبر و ازدهاء،ترافقها أبهة ممزوجة بشيء من حزن غير ضار، بل على العكس تماما، فقد أضاف إليها سرا يحتمل أن يكون رومانسية أو شقاء ، أو ربما فسره أصحاب النوايا السيئة بأنه آثار عربدة.. تفاجأت بصورتها معلقة ضمن لوحات المعرض عندما كانت في العشرين من عمرها بهيئة بديعة كأنها ساعة رملية قُلبت لتبدأ العد من جديد..اندهشت..سرحت بفكرها زمنا ،ثم أسرعت إلى الفنان :
ـ من أعطاك الحق في رسمي ؟
ارتبك ، نطق و هو يرتعد:
ـ خذيها لا أريدها..
ـ كيف رسمتني ؟ و متى ؟ أنا لا أعرفك ..
  يحاول الرسام أن يهدئ من غضبها خوفا من الإحراج  وسط جمهوره من الفنانين و الصحفيين .. ينزع الصورة من الجدار و يناولها إياها ،ملتفتا إلى الحاضرين بنبرة مبحوحة متكلفا الابتسام :
ـ من حقها أن تأخذ صورتها ، أليس كذلك ؟
يصفق له الجميع ، لكنها تسحبه بلطف إلى زاوية ، و تهمس بغضب بركان يتهيأ للانفجار :
ـ أخبرني عن سر هذه الصورة ..
ـ لم أرسمها أنا ، لقد اشتريتها..
ـ إذن معرضك كله من المشتريات ، أليس كذلك ؟
ـ لا..لا يا سيدتي ليس إلى هذه الدرجة ، حدث هذا مع صورتك فقط..اشتريتها من تاجر للأدوات المستعملة ..
ـ كيف تكون صورتي مستعملة ؟
ـ هذا هو الواقع ، هي صورة فنية رائعة ، أسلوبها قريب من أسلوبي في الرسم ،انتظري قليلا ،سوف أعطيك بطاقة زيارة المحل الذي اقتنيتها منه..
   يغيب للحظات ، ثم يرجع و معه البطاقة ، تخرج حائرة ، تقصد مباشرة المكان، تجد شيخا هرما ، تخجل من مشاجرته ، تعرض عليه  الصورة ، فيضحك بصوت مرتفع يثير الاستفزاز ، ثم ببطء شديد يغازل الغيظ يخبرها بأنه  اشتراها ضمن سلعة كثيرة ، و ليس لها ثمن ، فهي هدية من تاجر الجملة ، زودها بعنوانه.. ها هي الآن أمام كهل قوي طويل واثق النبرات،أحست بالخوف منه ، و هو يستنشق غليونا قذرا كاد يصير رمادا من شدة قدمه، رحب بها ، و أخبرها أنه اقتناها في مزاد علني ، و هي سلعة لشركة أفلس صاحبها ، أخذت عنوان المفلس ، و عندما وصلت إليه ، عرفت أن الصورة أهداه إياها صديق اشتراها من مدينة (س) ، فلم يكن بد من أن تنتقل إلى تلك المدينة .
   نامت ليلتها و هي في حيرة من أمرها ، ترى من رسمها وهي لم ترتبط في حياتها بأي رجل ؟ و لكن لماذا توقعت أن يكون الذي رسمها رجلا و ليس امرأة؟ربما لهذا الافتراض علاقة مع نمط حياتها ، فهي تعيش بمفردها بعيدة عن كل المزعجات و المنغصات ، تعتقد أن الجميع يطمع في أموالها، فلا تنغمس في أي علاقة ، يحيكون عنها الأقاويل، و لكنها لا تعبأ يهم ، لا تعبأ حتى بأخيها الأكبر الذي يزورها بين الفينة و الأخرى يعرض عليها الزواج بصديقه ، و لكنها كانت دائما ترفضه قائلة عنه أنه إنسان فاشل في حياته ، و هو يطمع أن أنفق عليه ، لست غبية حتى أشتري قيدي  بدراهمي .
   في الصباح سافرت إلى تلك المدينة ، والتقت بالشخص المقصود،وقد أخبرها بأنه اشتراها قبل عشرين سنة  من شاب كان في ذلك الوقت  يرسم الوجوه بسرعة فائقة و بدقة متناهية، ذكر لها اسمه ،وتفقدت مكان اسم الفنان أسفل الصورة ، فوجدته مغبرا، كل الذين مرت عليهم لوحتها معنيون  بتلميع الصورة تاركين اسم الرسام لنسيج العنكبوت، تأكدت من اسمه ، لم يكلف الرسام السارق الكبير صاحب المعرض نفسه حتى عناء محوه و وضع اسمه مكانه ،أخبرها أين تجده.
  قصدت المكان و هي تتساءل من يكون هذا الذي رسمها منذ تلك الفترة ؟من يكترث لشأنها؟فإذا هو كهل يميل  هندامه إلى لباس المتسكعين، ابيضت لحيته المبعثرة، لا يخاطب الناس بالكلمات، و إنما يتعامل معهم بالإيماءات ، بعضهم يسميه المجنون ، و بعضهم المصدوم ، و المدينة قد نسجت الأساطير حوله،فهو يعرض لوحاته في محل قديم بائس ،عندما رآها ابتسم  بعد حزن و عبوس داما عشرين سنة ،و حين سمعه الحاضرون  يرحب بها لم يصدقوا أنفسهم  ،أما هي فكانت متوجسة منه ، لولا ابتسامته المطمئنة التي يلوح منها طفل صغير، بعدما اعتدلت على مقعد احترزت كثيرا حتى تجد توازنها عليه لهشاشته ،سألته عن الصورة، فقال :
ـ كنت أنتظر مجيئك ،كنت متأكدا من  أنك لابد أن تهتدي إلى هذا المكان  ذات يوم ،  و تاتي لتسألي عن صورتك ..و ها أنت بعد عشرين سنة تصلين.
ـ كيف رسمتني ، و متى ؟
ـ لقد كان يوما ممطرا ، كنت تزاحمين المسافرين لصعود القطار ، و حين أخذت مكانك ، بدوت مبللة بالمطر ، حفظت منظرك ، و عندما رجعت إلى المنزل رسمتك ..
ـ ثم بعدها بعتني طبعا  ؟ !
ـ لا و الله لم أبعك ، لقد سُرقت مني ، و لكنني أعدت رسمك من جديد ..إنني كل سنة أرسمك بالتغييرات الطارئة حسب تقديري .
   بحث بين الألواح فوجد صورها ،إنها عشرين لوحة حسب تقدمها في السن،العجيب أن اللوحة الأخيرة تطابقها في كل شيء حتى في لون اللباس .. اندهشت ، تحدثت معه مطولا و تعجبت كيف يمكن لها أن تكون طوال كل هذه الفترة إما معلقة على الجدران ، و إما مبيعة ،أو مسروقة!
     في صباح الغد شاهدها الناس بلباس المتسكعات تبيع معه الألواح القديمة المستعملة.
  

ليست هناك تعليقات: