2017/08/29

لسانيات النصّ والتبليغ بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقـــة

لسانيات النصّ والتبليغ 
بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقـــة
على الرغم من كثرة الكتب التي ألفت عن اللسانيات النصية في اللغات الأجنبية،إلا أن هذا العلم ما يزال بكراً بالنسبة إلى لغتنا العربية،ولم يتم استثماره على نحو واسع،وبقدر يسمح للدارسين العرب الذهاب بعيداً نحو الحوار العلمي الرصين،والمناقشة الموسعة حول مختلف القضايا والإشكاليات التي يثيرها هذا العلم الذي ظهر«تجاوزاً للدراسات اللسانية الجملية بمختلف توجهاتها(البنيوية والتوزيعية والسلوكية والوظيفية والتوليدية التحويلية)،ولا يعني التجاوز هنا القطيعة العلمية بين تلك التوجهات واللسانيات النصية،وإنما تطور العلوم يفترض استفادة اللسانيات النصية من كل معطيات اللسانيات الجملية،وتجاوز قصور هذه الأخيرة من حيث إن الجملة لم تعد كافية لكل مسائل الوصف اللغوي،من حيث الدلالة والتداول والسياق الثقافي العام،وكل ذلك له دور حاسم في التواصل اللغوي،وقد أخرجت اللسانيات النصية علوم اللسان من مأزق الدراسات البنيوية التركيبية التي عجزت في الربط بين مختلف أبعاد الظاهرة اللغوية،وقد اتخذت اللسانيات النصية هدفاً رئيساً ترمي الوصول إليه،وهو الوصف والتحليل والدراسة اللغوية للأبنية النصية،وتحليل المظاهر المتنوعة لأشكال التواصل النصي،ذلك أن النص ليس بناء لغوياً فحسب،وإنما يدخل ذلك البناء في سياق تفاعلي بين مخاطِب ومخاطَب،تفاعل لا يتم بجمل متراكم بعضها فوق بعض كيفما اتفق،غير متماسكة ولا يربطها رابط،ولا تدرك النصوص بوصفها أفعال تواصل فردية،بل بوصفها نتائج متجاوزة الإفراد»)1(.

            ويجمع الدارسون على أن اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة البشرية،وهي تركز أبحاثها على اللغة،وتتخذها موضوعاً رئيساً لها،وتنظر إليها على اعتبار أنها غاية وليست وسيلة،وقد اشتهرت دعوة سوسير إلى دراسة اللغة لذاتها وفي ذاتها،وهذا ما اعتبره الكثير من الدارسين فتحاً علمياً جديداً،حيث يقول الدكتور عبد السلام المسدي مبرزاً أهمية اللسانيات:«...ومن المعلوم أن اللسانيات قد أصبحت في حقل البحوث الإنسانية مركز الاستقطاب بلا منازع،فكل تلك العلوم أصبحت تلتجئ-سواء في مناهج بحثها أو في تقدير حصيلتها العلمية-إلى اللسانيات وإلى ما تفرزه من تقريرات علمية وطرائق في البحث والاستخلاص.ومرد كل هذه الظواهر أن علوم الإنسان تسعى اليوم جاهدة إلى إدراك مرتبة الموضوعية بموجب تسلط التيار العلماني على الإنسان الحديث،ولما كان للسانيات فضل السبق في هذا الصراع فقد غذت جسراً أمام بقية العلوم الإنسانية من تاريخ وأدب وعلم اجتماع، يعبُره جميعها لاكتساب القدر الأدنى من العلمانية في البحث،فاللسانيات اليوم موكول لها مقود الحركة التأسيسية في المعرفة الإنسانية لا من حيث تأصيل المناهج وتنظير طرق إخصابها فحسب،ولكن أيضاً من حيث إنها تعكف على دراسة اللسان فتتخذ اللغة مادة لها وموضوعاً.ولا يتميز الإنسان بشيء تميزه بالكلام،وقد حده الحكماء منذ القديم بأنه الحيوان الناطق،وهذه الخصوصية المطلقة هي التي أضفت على اللسانيات -من جهة أخرى-صبغة الجاذبية والإشعاع في نفس الوقت.فاللغة عنصر قار في العلم والمعرفة سواء ما كان منها علماً دقيقاً أو معرفة نسبية أو تفكيراً مجرداً. فباللغة نتحدث عن الأشياء وباللغة نتحدث عن اللغة-وتلك هي وظيفة ما وراء اللغة-ولكننا باللغة أيضاً نتحدث عن حديثنا عن اللغة.بل إننا باللغة-بعد هذا وذاك-نتحدث عن علاقة الفكر،إذ يفكر باللغة من حيث هي تقول ما نقول.فكان طبيعياً أن تستحيل اللسانيات مولداً لشتى المعارف،فهي كلما التجأت إلى حقل من المعارف اقتحمته فغزت أسسه حتى يصبح ذلك العلم نفسه ساعياً إليها،اقتحمت الأدب والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع ثم اتجهت صوب العلوم الصحيحة فاستوعبت علوم الإحصاء ومبادئ التشكيل البياني ومبادئ الإخبار والتحكيم الآلي وتقنيات الاختزان في الكمبيوتر،وآخر ما تفاعلت معه من العلوم الصحيحة حتى أصبح معتنياً بها عنايتها به علم الرياضيات الحديثة لاسيما في حساب المجموعات،وهكذا تسنى للسانيات أن تلتحق بالمعارف الكونية إذ لم تعد مقترنة بإطار مكاني دون آخر،فهي اليوم علم شمولي لا يلتبس البتة باللغة التي يقدم بها،وفي هذه الخاصية على الأقل تُدرك اللسانيات مرتبة العلوم الصحيحة بإطلاق...» )2(. 
         وفي السياق نفسه يؤكد الدكتور محمد الحناش على أن اللسانيات فرضت وجودها على كل ميادين المعرفة الإنسانية،لأنها تبحث في أصول آلية الإنتاج العلمي التي تفرز بها كل العلوم:اللغة،فقد استطاعت إعادة هيكلة ومنهجة جل العلوم الإنسانية الحديثة وجعلتها سهلة التناول كما جعلت المثقف يجدد نفسه باستمرار ،فدور«اللسانيات الحديثة هو إعادة هيكلة قواعد النحو العربي من منظور جديد فتقدمها بطرائق أخرى تكون أكثر ملاءمة مع التطور الذي حصل في المجتمع العربي،وهذا التمنهج لا يعني الانتقاص من قيمة التراث اللغوي بل هو تأكيد لقيمته لأن نقطة الانطلاق سوف تكون هي التراث،ونعتقد أن اللسانيات ستمكن القارئ العربي للتراث أن يموضع نفسه في موضع قوة من حيث إنه سوف يتطرق إليه بأداة علمية ومضبوطة يحسن تقديمه للآخرين بطرائق سهلة تمكنهم بدورهم من إعادة قراءة التراث ومسايرة ركب التطور،وخلاصة هذا هي أن التراث واللسانيات الحديثة يجب أن يدخلا في علاقة الألفة والتمنهج وبذلك تدخل الأصالة والمعاصرة في تحالف لا ينفك إلا بعد أن يكتمل المنهج اللغوي الذي نرجوه لهذه الأمة»)3(. 
            وبالنسبة إلى مراحل دخول اللسانيات إلى الثقافة العربية الحديثة فالدكتور مصطفى غلفان يذكر أن الدراسات اللغوية العربية الحديثة قطعت أشواطاً هامة نحو الضبط والدقة بعد مراحل عديدة من المخاض والنمو،وقد أجملها فيما يلي:
«أ-إرسال البعثات العربية إلى الجامعات الغربية.
ب-القيام بدراسات جامعية أو أطروحات من قبل طلاب عرب في جامعات أوروبا وأمريكا بالخصوص  تناولت وصف الواقع اللغوي العربي من وجهة نظر مختلف المدارس اللسانية الغربية،وما زالت هذه العملية قائمة إلى اليوم.
ج-إنشاء مجموعة من الكراسي الخاصة بعلم اللغة كما هو الشأن في الجامعات المصرية،وقد تم تدريس علم اللغة في جامعات عربية أخرى كسوريا والعراق تحت اسم فقه اللغة.
د-ظهور كتابات لغوية تعرف بعلم اللغة الحديث وتشمل مؤلفات وكتباً صنفها أصحابها بالعربية رأساً وتناولت مفاهيم ألسنية بالتبسيط والتقديم التعميمي،نذكر منها على سبيل التمثيل كتاب وافي(علم اللغة)1941م وتمام حسان في(مناهج البحث في اللغة)الصادر سنة:1955م ،و(اللغة بين المعيارية والوصفية)الصادر سنة:1957م،و(علم اللغة:مقدمة للقارئ العربي)لمحمود السعران الصادر سنة:1962م.
هـ-ظهور ترجمة عربية لبعض المقالات اللسانية وتلاها عدد ضئيل من التراجم العربية لأهم المؤلفات الغربية المتعلقة بالألسنية العامة،في هذا السياق كانت ترجمة مندور لمقال مايي(علم اللغة)سنة:1946م،وترجمة كتاب(اللغة)لفندريس سنة:1950م،وإنشاء مراكز علمية خاصة بالبحث اللساني كما هو الحال في تونس سنة:1964م،والجزائر سنة:1971م.
و-تنظيم ندوات ولقاءات علمية محلية وجهوية ودولية في مجال اللسانيات وكان للسانيي تونس والمغرب دور بارز ومشكور في تنظيم مثل هذه الندوات.
ز-إنشاء تخصصات قائمة الذات في اللسانيات العامة بكليات الآداب بالجامعات العربية،لاسيما في تونس والمغرب اللذين يتميزان عن غيرهما من دول العالم العربي في هذا المجال»)4(.  
         و يرى الدكتور  مصطفى غلفان في تقييمه لواقع البحث اللساني في الوطن العربي أنه ينبغي الاستعجال بالتركيز على قضيتين أساسيتين،وذلك بغرض إرساء تفكير لساني علمي بالنسبة إلى اللغة العربية:
        أولاً:وضع برنامج عام بالنسبة إلى مستقبل لسانيات العربية تُحدد من خلاله المهام الملقاة على عاتقها أو التي يتوجب البحث فيها بشكل جماعي ومؤسساتي مثل:معاهد البحث و الكليات المتخصصة،ووفق رؤية الدكتور غلفان أنه باستثناء أبحاث عبد القادر الفاسي الفهري وتلامذته في إطار تطبيق النحو التوليدي على اللغة العربية،وأبحاث أحمد المتوكل في إطار إعداد نحو وظيفي للغة العربية،فليس لدينا كما هو الشأن في مختلف بقاع العالم،و بالنسبة لجميع اللغات البشرية رؤى واضحة تتصل بالقضايا التي ينبغي دراستها من منظور اللسانيات في لغتنا العربية.
        ثانياً: تحديد طبيعة لسانيات العربية انطلاقاً من تحديد تصوري ونظري لموضوعها،ويذهب الدكتور غلفان في توضيحه لهذه القضية إلى التأكيد على أننا في حاجة إلى حركة لغوية علمية جديدة تقوم على رصد خصائص وسمات اللغة العربية التي يتعين البحث فيها عبر مختلف المستويات،فالدرس اللساني العربي الحديث والمعاصر-كما يرى الدكتور مصطفى غلفان- يفتقد في مجمله إلى رؤية منهجية تحدد طبيعة اللغة العربية من حيث هي موضوع للدرس والتحليل،أي باعتبارها مصدراً للمعطيات المادية التي يشتغل بها اللسانيون العرب المحدثون أو التي يفترض أن يشتغل بها هؤلاء،فالدرس اللساني العربي هو في حاجة إلى تأسيس نظري لموضوعه،وذلك حتى يستجيب لإحدى أهم المتطلبات المنهجية في البحث اللساني العام والمتمثلة إجمالاً في تحديد مجموع الأدوات المعرفية والتقنيات التي تستخدمها اللسانيات لتحديد موضوعها والبحث فيه،ويشير الدكتور غلفان إلى أنه بحسب وجهة النظر التصورية المتبعة في التحليل اللساني، فإن موضوع اللسانيات هو المتن بالنسبة للبنويين،وهو حدس المتكلم بالنسبة إلى المدرسة التوليدية وغيرها من التيارات اللسانية المعاصرة،وما هو أهم في الفترة المعاصرة هو التقيد المطلق بالأسس اللسانية وخطواتها وإجراءاتها كما هي باعتبارها تشكيلة نظرية ومنهجية متكاملة.
            ومن جهة أخرى يرى الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري أن الكتابات اللسانية العربية الحديثة هي عبارة عن خطاب لساني هزيل نظراً لافتقادها لمقومات الخطاب العلمي،ويُرجع هزالة الإنتاج العربي في ميدان اللسانيات إلى عدد من المغالطات التي ترسخت في أذهان الباحثين  العرب،ومن أبرزها:
1-التصور الخاطئ للغة العربية.
2-التصور الخاطئ للتراث.
3-ادعاء العلمية و المنهجية.
4-أزمة المنهج واللغة الموصوفة.
         ويعد كتاب«لسانيات النص والتبليغ»للباحث الجزائري الدكتور عبد الجليل مرتاض واحداً من الكتب والدراسات الجادة والمتميزة التي خطت خطوات هامة في مناقشة مختلف القضايا العلمية والمفاهيم الأساسية التي يثيرها هذا العلم الذي لقي صدودا من قبل مختلف الباحثين والدارسين العرب،ولم يحظ بالعناية الكافية.
  ينقسم كتاب الدكتور عبد الجليل مرتاض إلى بابين،في كل باب نلفي ثلاثة فصول.
         الباب الأول من الكتاب موسوم ب«التحليل اللساني للنص والخطاب»،وقد حاول فيه المؤلف أن يتلمس الفوارق ما بين المدونة والنص،فأشار إلى أن المدونة غالباً ما يُراد بها عينة من عينات البحث اللغوي، أو متن أو مادة لغوية،ويرى أن هذه التعريفات،وما سار في موكبها لا تُفرق بين مدونة متصلة بما هو خطي أو منطوق أو مرئي غير لساني،ويذهب الدكتور عبد الجليل مرتاض إلى أنه«ما من شيء يُرى أو يلمس أو يُحس أو يتخيل إلا ويمكن صياغته أو تصور عينة من عيناته،غير أنه من اللامعقول أن نعتبر جملاً أو فقرة أو صفحة من عمل فني أو إبداعي لا يعدو أن يكون نموذجاً أو نمطاً مثله مثل عينة تؤخذ من كوكب أو معدن أو جسم ما،فهذه كلها عينات مادية وثابتة إلى حد ما،ولا تُفسر إلا تفسيراً مشتركاً في نهاية كشفها واتضاحها وإخضاعها للدراسة العلمية والمخبرية والتجربة العلمية،في حين أن المدونة اللسانية عيناتها غير مادية،وما يفصح عنها متحرك في مداليله وثابت في دواله الصوتية الملفوظة أو المخطوطة،وعادة ما تخضع قراءتها إلى التأويل لا إلى الوصف والتفسير،ولها من المميزات الذاتية والتي لم يحملها العقل الإنساني حتى الآن،ما يمكنها من الحران،باعتبار الأدوات التي نسجت بها شفهياً أو خطياً أبعد غوراً من الإدراك السطحي لأي دارس هاو أو لساني مختص»)5(.
          ويؤكد الدكتور عبد الجليل مرتاض من جهة أخرى على أن متلقي المدونة لا يتلقى نظاماً أو حتى جزءاً من هذا النظام،لأن اللغة في ذاتها متعددة الأنظمة،والأمر يتوقف قبل كل شيء على المستويات الخطابية التي يتلقاها،أي على التراكيب المختلفة،لأنها مهما سمع السامع ما سمع فإنه لا يستطيع أن يحيط بكل التكلمات الفردية التي يسمعها،ففي هذه الحالة يلجأ إلى فرز التراكيب وانتقائها،ويلفي المتلقي نفسه أمام فردية علنية من الكلام لا أمام نظام لغوي قائم بذاته،فلا يمكنه أن يقف على كل التراكمات الخطابية أو الصور الشفوية الموزعة بين الأفراد،ويستشهد الدكتور عبد الجليل مرتاض في هذا الصدد بقول ملارمي:«إننا لا نصنع الأبيات الشعرية بالأفكار،بل نصنعها بالكلمات»،وبقول الجاحظ:«المعاني مطروحة في الطريق»،ويرى أن جان كوهين هو أوضح ناقد لساني تحدث عن هذه القضية، حيث يقول:«وعندما يخلق الشاعر إذاً استعارة أصيلة،فإنما يخلق الكلمات،وليس العلاقة،إنه يجسد شكلاً قديماً في مادة جديدة،وهنا يكمن إبداعه الشعري،فقد أعطيت الطريقة،وبقي أن تستعمل...،إن الصور الإبداعية ليست جديدة في شكلها،بل في الكلمات الجديدة التي جسدتها فيها عبقرية الشاعر لا غير،قد يحدث أن يعاد استعمال بعض هذه الإنجازات،فتسقط لذلك إلى مستوى الاستعمال،نحصل حينئذ على هذه الصور الاستعمالية حيث الشكل والمادة،العلاقة والكلمات متوفرة سلفاً».
          وقد انتقى الدكتور عبد الجليل مرتاض في الفصل الثاني من هذا الباب مدونة شعرية جاهلية للنابغة الذبياني،وقام بتحليلها تحليلاً تعليمياً ودلالياً،وفي الفصل الثالث الذي وسمه ب«التحليل الخطابي وأضربه في النص»،تحدث المؤلف عن الأبعاد الثلاثية للخطاب،والذكاء السردي في النص.
            وفي الباب الثاني من الكتاب انتقل المؤلف للحديث عن«النظريات اللسانية للوظيفة والتبليغ»،فتطرق في البداية إلى مفهوم التبليغ الذي لا تتردد بعض الموسوعات اللسانية الحديثة في تعريفه على أساس أنه تواصل كلامي يندرج في إطار تبادل كلامي من فاعل متكلم ينتج ملفوظاً موجهاً نحو فاعل متكلم آخر يرغب فيه مكالم أو محادث سماعاً له،أو إجابة عليه بشكل صريح أو ضمني تبعاً لنمط الملفوظ المراد تبليغه إلى الفاعل المتكلم الآخر،وفي علم النفس اللغوي فسيرورة التواصل اللغوي ترتبط دلالاتها بالأصوات المتواضع عليها والمعتاد سماعها دون زيادة أو نقصان أو تغيير ،و تعرفه نظرية التبليغ  بأنه نقل رسالة أو إرسال معلومة بين مُصدر يصدرها أو باث يرسلها ومستقبل بفضل مُرسلة منتشرة عبر قناة،ويمكن تشبيه هذه العملية الاتصالية بالتبليغ الهاتفي،وقد استشهد الباحث عبد الجليل مرتاض بمنظور قيرو لنظرية التبليغ،حيث يذهب إلى أنه في التبليغ ليس هناك إلا تحويل لشكل مسجل في ماهية أو فحوى خطاب،كما هو الشأن مثلاً في الأشكال البصرية فالخط الهاتفي ينقل طاقة،والرسالة تنقل أشكالاً خطية،ويؤكد قيرو على أن التبليغ لا يتوطد في مستواه الدلالي إلا في نطاق ما يمتلك كل من الباث والمستقبل من رموز مشتركة بغرض ترميز وتفكيك المراسلة،وهنا يتحول الباث مستقبلاً،والمستقبل باثاً بصورة ضمنية أو آلية،أي يعمل الباث في حسبانه أنه مرسل إليه لا مرسل،وأهم ما أكده جيرولد كاتز أن متكلمي اللغة يتقنون استعمالها لأنهم يعرفون قواعدها،وبما أن التواصل اللغوي مسار يكون المعنى الذي يقرن به المتكلم الأصوات هو نفس المعنى الذي يقرن به المستمع الأصوات نفسها،حيث يكون من الضروري استخلاص أن متكلمي لغة طبيعية معينة يتواصلون فيما بينهم في لغتهم،لأن كلاً منهم يمتلك بصورة أساسية تنظيم القواعد نفسه،ويتم التواصل لأن المتكلم يرسل مرسلة عبر استعمال القواعد اللغوية نفسها التي يستعملها المستمع إليه لكي يلتقطها،وقد نبه رومان جاكبسون إلى أن اللغة يجب أن تُدرس في كل تنوع من تنوعات وظائفها،فقبل التعرض إلى الوظيفة الشعرية لابد من تحديد ماهية مكانها من بين الوظائف الأخرى للغة،وذلك لإعطاء فكرة عن الوظائف الأخرى تتصل بالعوامل المكونة لكل مسار لغوي إزاء كل تواصل لغوي،فالمرسل يرسل مرسلة لمرسل إليه،وحتى تكون هذه المرسلة عملية،فإن المرسلة«تقتضي قبل أي شيء سياقاً تحيل عليه(والمسمى أيضاً تسمية لا تخلو من غموض-المرجع-)،وهذا السياق قابل لأن يُفهم من قبل المرسل إليه،سواء كان كلامياً أو محتملاً لأن يكون كلاماً،ثم تأتي المرسلة التي تتطلب سنناً مشتركاً كلياً أو أقله جزئياً بين المرسل والمرسل إليه(أو بعبارات أخرى بين ترميز المرسلة وتفكيكها)،على أن تتطلب المرسلة أخيراً اتصالاً وقناة فيزيائية وارتباطاً سيكولوجياً بين المرسل والمرسل إليه،ويسمح هذا الاتصال بإقامة واستمرار التبليغ،هذه العوامل المختلفة للتبليغ الكلامي،و التي لا تقبل التجزئة يمكن بيانها بالمخطط التالي:مرسل –سياق-مرسلة-مرسل إليه-اتصال-سنن.
        كل عامل من بين هذه العوامل الستة يعطي ميلاداً لوظيفة لغوية مختلفة،ولنقل مباشرة إذا كنا نميز هكذا المظاهر الستة الأساس في اللغة،فإنه يكون من الصعب إيجاد مرسلات تؤدي وظيفة واحدة وحسب،بسبب أن تنوع المرسلات لا يكمن في احتكار وظيفة أو أخرى،بل في تبايناتها التدريجية فيما بينها،ذلك أن البنية الكلامية للمرسلة تخضع قبل كل شيء إلى الوظيفة المهيمنة،بل حتى لو كان تركيز الإحالة مصوباً نحو السياق-والمقول له الوظيفة التعينية،الإدراكية، المرجعية-هو المهمة السائدة في عدة مرسلات،فإنه ينبغي على اللساني اليقظ أن يأخذ بعين الاعتبار الاشتراك الثانوي لوظائف أخرى»)6(.
            وبناءً على ما أشار إليه جاكبسون،فالوظيفة المسماة سحرية أو تعزيمية،يُمكن أن تُفهم كتحويل لشخص ثالث غائب أو شيء غير متحرك إلى مستقبل لمرسلة ندائية،وقد قدم عدة أمثلة من الجمل،وأوضح الوظائف القطبية الثلاث،تعبيرية،وتحريضية،ومرجعية،وهي توجد في ثلاثة أنماط من الشعر:
1-الشعر الغنائي حيث الشاعر يطلق العنان لمشاعره.
2-الشعر الرثائي المغمور بالحث على التوبة.
3-الشعر الملحمي الذي يسرد تفاصيل الأعمال الباهرة لبطل من الأبطال.
               في الفصل الأخير من الكتاب تساءل الدكتور عبد الجليل مرتاض عن كيفية اشتغال الآلة الوظيفية في اللغة،وكما يذهب الكثير من اللسانيين فلفظة(الوظيفة) لسانياً تم تداولها من قبل رواد ومؤسسي حلقة(براغ)،ومنذ ذلك العهد انتشرت وما تزال مستعملة إلى أيامنا هذه،وهي تعني كل استعمال لغوي يتخذ دلالات متنوعة جداً على مستوى تحليل الجملة،فالعناصر اللسانية تتميز بتنوع استعمالها،وذلك بوساطة علاقاتها الحصرية فيما بينها،فوظائفها تتشابه في جوانب،وتتباين في جوانب أخرى،وقد استحدث ميشال ريفاتير الوظيفة الأسلوبية التي تضاف إلى الوظائف الست التي أبرزها جاكبسون،فريفاتير قام بتوسيع التصورات التي أضفاها جاكبسون على الوظيفة الشعرية،وقد اقترح تعريف أدبية جملة من الجمل  بناءً على ثلاثة شروط:
1-تحدُّد تضافري:قاصداً بهذا المصطلح أن العلاقات بين عناصر  الجملة محددة و تضافرية من خلال نسخ بينصي،أو محاكاة لغوية أو استقطاب دلالي أو جعل نظام وصفي ينتقل لطور الحقيقة.
2-تحويل،يقصد به هنا أن الجملة الأدبية وحدة عناصرها الدالة كلها معرضة للتأثير من خلال التعديل لعامل واحد.
3-التوسيع:ويشير به إلى أن التوليد يتم عبر تحويل لدافع جلي بدافع مضمر.
     وهناك من اللسانيين من ذهب إلى أن اللغة لها وظيفة واحدة،ومن بين هؤلاء دونيز وفردريك فرانسوا حيث أكدا على أن اللغة في واقعها الأكثر التحاماً نظرياً تتميز بوظيفة واحدة،وهي وظيفة التبليغ التي نلفيها في كل الملفوظات المتلفظ بها.
  الهوامش:
(1)يُنظر:د.رشيد عمران:تجليات النظرية اللسانية النصية في الخطاب النقدي العربي القديم-التحليل النصي للباقلاني نموذجاً-،مقال منشور في مجلة الرافد،العدد:176،جمادى الآخر1433هـ/أبريل2012م،ص:08.
(2)  يُنظر:التفكير اللساني في الحضارة العربية،الدار العربية للكتاب،ليبيا،ط:02، 1986 م،ص:9-10 . 
(3)  يُنظر:البنيوية في اللسانيات،دار الرشاد الحديثة،الدر البيضاء،المغرب الأقصى،ط:01،1980  م ،ص:6 .
(4)  يُنظر:اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة-حفريات النشأة والتكوين-،شركة النشر والتوزيع المدارس،الدر البيضاء،المغرب الأقصى،ط:01،2006  م ،ص:146-147 .
(5)د.عبد الجليل مرتاض:لسانيات النص والتبليغ،منشورات دار الأديب،الجزائر،2012م،ص:04.  
(6)د.عبد الجليل مرتاض:لسانيات النص والتبليغ،ص:96.  

ليست هناك تعليقات: