2017/09/04

خربشة و ألحان .. بقلم: عبدالقادر صيد

   خربشة و ألحان
عبدالقادر صيد
 من نافذة زنزانتي البعيدة المبنية على أعلى قمة في المنطقة وللعام العاشر على التوالي تصلني أنغام ندية ، كأنني معها على موعد ، فبعد العشاء مباشرة يبدأ صوت الناي في استئذان سمعي بخجل ، تترنح ذبذباته خفيفة تدغدغ الآذان ، ثم تبدأ في الاستحواذ على كل وجداني ، لم يتخلف ولا يوما واحدا ، كنت أحس به حينما يكون فرحا ، و عندما يكون حزينا ، أسافر معه على بساط الريح إلى عوالم بعيدة تخرجني من زنزانتي ، و كان بعدها يرتجل أغاني حزينة تصف حالتي قبل حالته.
    و حين جاء يوم الإفراج عليّ ، أردت أن أجمع تلك الألحان و أحملها معي ،لكنني خرجت في النهار،فتشت في زوايا الزنزانة ،فلم أعثر على شيء ، فعزمت أن أبحث عن صاحب الصوت ، خرجت من السجن ، فلم أجد من ينتظرني عكس ما كنت أتوقع ، و كما هو الحال في الأفلام، ، أعتقد أنهم لا يريدون أن يشوهوا سمعتهم بخريج سجون مثلي ، دون أن يهمهم سبب إدانتي ،نزلت ذلك المرتفع ، تطلب الأمر نصف يوم كامل، فقد استغنيت عن الحافلة التي توفرها إدارة السجن لأنني أعتقد أنها سجن متحرك ، ثم هي تزيد من عمر محكوميتي  في قلبي ساعات أخرى ، كأن جدرانه لن تشبع بعد من خربشاتي. وصلت القرية ، فبحثت عن شخص يتقن عزف الناي ، و يغني ليلا ، فأرشدوني بأنه يعيش هناك ، فاتبعت إشارتهم فإذا أنا أمام مبنى ضخم ، طرقت الباب ، فاستقبلني موظفون غلاظ ، طلبت منهم مقابلة صديقي الفنان ، فردوا عليّ :
ـ هل لك معه موعد ؟
ـ للأسف ..لا..
ـ املأ هذا الطلب ، و سنرى ..
بعدما كتبت الطلب ، جاءني القبول ، فدخلت إليه وسط حراسة مشددة ، و بقي الحراس معي ، سلمت عليه ، فلم يجبني ، ثم استدار إليّ ،و قال :
ـ لماذا من بين كل المسجونين الذين كانت تصلهم ألحاني تأتيني أنت بالذات ؟هل أنت مختلف عنهم ؟ لا أعتقد بالاختلاف في هذا العصر ..
ـ لست أدري، و لكنني أتيت .
ـ كم لبثت في السجن ؟
ـ عشر سنوات ..
ـ إذن عشر سنوات من العزف و الغناء ..
ـ نعم ، عندما خرجت جئت إليك مباشرة ..
ـ أجزم أنك لم تكن تدوّن كلماتي على الجدار ..
ـ صحيح ، كنت أخربش ذكرياتي ..
ـ هل لك أن تبقى معي ، لتكتب ما أملي عليك على الجدران ؟
ـ و لكنها جدران نظيفة ؟
ـ لا يهم ..فكلماتي أنظف ..
وقّعت على عقد لكي أبقى معه ، و عندما حان وقت العشاء ، بدأ الغناء ،و بدأت الكتابة ،و مع الأيام تعودت على الترنم بألحانه عسى أن تصل إلى النزيل الجديد ، بعد أيام و حين شرعت في ارتجال ألحانا خاصة بي ، جاء الحراس ، و مشى برفقتهم ، فصحت فيهم :
ـ إلى أين تذهبون به ؟
ـ حان وقت تنفيذ حكم الإعدام عليه ..لقد لبّينا له أمنيته في استضافتك في زنزانته..

ليست هناك تعليقات: