2018/04/13

سوريان ومصريّ وثلاثُ مرثيَّاتٍ للوطن بقلم: رانيا مسعود



سوريان ومصريّ وثلاثُ مرثيَّاتٍ للوطن
بقلم: رانيا مسعود

الهمُّ العربيُّ واحد، وإن اختلفت الأوطان فإِنَّا نتحدُ على العروبةِ والدين بحكم انتسابنا لجذورٍ واحدة، وها هم ثلاثة من الشعراء يقدمون في عدد واحدٍ من مجلة الأدب الإسلاميّ ثلاثَ قصائد تتناولُ مأساةَ سورية بموسيقا القوافي الحزينة، وإن اختلفت بأعين الشعراء الثلاثة الرؤيةُ الشعرية كلٌّ من جانبِهِ. وبمطالعتي للثلاث قصائد وجدتُ رباطًا وشيجًا بينهم، فالوطنُ العربيُّ واحدٌ، والوحدةُ التي كانت بين البلدين (مصر وسورية) فيما قبل هو أكبر رباطٍ يؤججُ قريحةَ الشعراء الثلاثة للبكاء على سورية على الرغم من كون اثنين منهم ينتميان للأرض والثالث ينتمي إليها وطنًا أعم وأشمل ساكنًا في حنايا القلب، لا يغيب عن الوجدان.

افتتحَ العدد بكائيات سورية بقصيدةٍ مصرية للشاعر/ محمد عباس علي داوود الذي أطلق
عليها اسم (دمشق)، ودمشقُ الغائبة عن العين لا تغيبُ أبدًا عن عين الشاعر المصري بل والعربي حين يتوجه إليها بالحديثِ عمَّا استعادتْهُ الذكرى في نفسه، فالشاعرُ في مروره بينما تغشاهُ الظلماتُ رأى دمشقَ قد بَدَتْ بشموخها الحاضر في النفس ورقتها وإطلالتها، وكأنه يصفها امرأةً  صامدةً على الرغم مما يخيمُ على الوطن من حولها من ظلمات. هي القويةُ الأبيَّةُ المكافحة لدمعةٍ تثقلُ أن يذرفها قلبٌ به مِن العزةِ ما يهوِّنُ الجرحَ - وإن كان غائرًا - على أن يرى الإذلالَ في ركوعه للجاني. ويجددُ الشاعرُ مرورَهُ في الليلِ وهنا اختيارُهُ لليلِ حيثُ السكون والظلام هو اختيارٌ دالٌ على مشاعره تجاه الوطن المنكوب،فلحظة الفجرِ بعد لم تحِن وهي اللحظةُ التي يستخدمُها المبدعُ للتعبيرِ عن الخلاص من الظلمِ والجهل والهوان، وهي تختلفُ عن لحظة الشروق حيث يبدأ الوطنُ في استعادة أمجاده من جديدٍ. لكنه هنا مع مروره في الليل يرى الليلَ في الأجواءِ كقنديلٍ، وياللأسف كما الذي لا قنديلَ له ولا مصدرَ حقيقي للضوء يستضيء به ليلُهُ ولا مأوى لهُ يحميه من قساوةِ اللحظات. لكن الغطاء الوحيد الذي لم يجد سواه كان مجدولًا من قهرٍ يحاولُ إخفاءه تمامًا كما يُخفي مشاعرَهُ ويؤثرُ الصمتَ فلا يسكب بحار الدمع والشكوى والأنين من الألم إلا داخل أضلعه. وفي المقابل يرددُ الكونُ من حوله ادعاءاتٍ بالحنو والشفقةِ بمعسولِ الكلمات على كل من يئنون في أوطانهم، بينما يركلهم في الحقيقة بل ويدهسهم تحت أقدامه. ويعاودُ الشاعرُ المرورَ فإذا بالكُلِّ قد أضحوا يعالجون الندمَ وهنا أبرزَ الشاعرُ المسؤوليةَ التي يراها المقصرون من أبناء الوطن الأكبر في حقِّ منكوبيه، فلا يرون بُدًّا من الندمِ والأسى لقتالِ الأخِ لأخيهِ في علاقاتٍ باتت غريبةً مستهجنةً بين الأشقَّاء. وفي مروره مجددًا طاويًا الآهاتِ يراها دمشقَ في حالتها وليس لها من مأوىً إلا الصمت والظلمات، وبالجرحِ ونزيفِهِ اكتواء يدعوها لتناجي ربَّهَا فما لها مَن يُضَمِّدُ جرحها سواه، وكأنها أمٌّ جرحها ذاك الولدُ العاصي العاق وآذاها تعاتبُهُ وتناشده أن يكفَّ عنها أياديه الغادرة الآثمة. وفي مروره الأخير يستمعُ إلى صوتها يحييه بإصرارٍ على الصمودِ يصاحبُهُ إيمانٌ قويٌّ بقسمٍ برب الكون أنها باقيةً ما دام ربُّ الكون لها راعيًا وحافظًا.

تنوعت الموسيقا في القصيدةِ وهو ما يناسبُ هذا اللون المتحرر من القصائد، فنجدُ الشاعرَ قد اختارَ للسطور الأولى له ألفاظ: تغشاني، تلقاني، الدامي، للجاني. وهو استهلالٌ موسيقيٌّ موفق حيث أظهر اختياره ما بالحالةِ من ضعفٍ واستكانةٍ وهوان. بينما اختار في الجزء الثاني من قصيدته النهايات في الألفاظ: أضحى، مأوى، الشكوى، القسوة. وهنا تتأزم المواقف فيصفها بتلك الموسيقا العالية قليلًا عن سابقتها. وفي الثالثةِ القِصَر في وصفِ حالة التقصير من الأشقاءِ دعته للاختصارِ مستخدمًا كلمتي: ندمًا، يومًا. بينما في الرابعةِ: أطويها، تحصيها، تؤويها، يكويها، يحميها، يؤذيها، يدميها وهي الأطولُ مقارنةً بموسيقا الثلاثة أجزاء الأولى. ويختتم بموسيقا أقل حدةً وتتناسب مع موسيقا الاستهلال باختياره اللفظين: حياني، يرعاني.

وألوانُ البيان من استعارةٍ وتشبيهٍ حاضرةٌ في الأبياتِ بقوة، ففي بدءِ القصيدة يقول الشاعرُ:

رأيتُ دمشقَ
خلف جهامة اللحظات تلقاني

والشاعرُ هنا رأى دمشقَ امرأةً في لقاءٍ معه في استعارةٍ أبرزَ من خلالها حالتها.
والتشبيهُ التمثيلي هنا في قوله:

تكافح دمعةً
ثقلت
على القلب الذي يأبى
ركوع الذل للجاني

فهو يشبه حالها في مقاومتها الدموع بحالِ من تأبى الأنفة بداخله أن يبدوَ راكعًا بذلٍ لمن يجني عليه. وهنا روعةُ التجسيد والمقارنة في محلها واختيارُ الصورتين من الجمالِ أن يُظهرَ تمكن الشاعر من أدواته.
كذلك في وصفه للغطاء الذي يُتدَثَّرُ به من الليل استعارةٌ حين يقول:

وكان غطاؤه المجدولُ من قهرٍ يدثره
ويسكب بين أضلعه بحار الدمع والشكوى

فالغطاءُ مجدولٌ من قهرٍ وهي استعارةٌ جميلة أبرزها بانتقاءِ جميل اللفظِ الذي عبَّرَ عن القسوة والمرار، بينما في سكب بحار الدمع والشكوى بين الضلوع استعارةٌ أخرى حيث شبَّهَ الشكوى بالماء وكذلك شبَّهَ انهمار الدموع كانكساب البحار وكأنما تنهمرُ وتنكب من علياءٍ إلى الأسفل كالشلال. وهذه الصورة نابضةٌ بحلو المعاني حين ارتسمت بها الطبيعةُ ممتزجةٌ بالحالة المريرة والألم.
وكذا الاستعارةُ حيَّة في الكون الذي (يدوسُ بالأقدامِ من يشكو مرار الظلم والقسوة) حيثُ تتجلى القسوةُ في رجلٍ يبطشُ بالضعيف بالاستقواء عليه فيسحقه تحت أقدامه. وهنا أيضًا مقابلة في حالِ الكون الظاهرِ متجسدًا أمام الجميع يحنو بكلماته على المسكين في حين يسحقُهُ في الواقع تحت أقدامه.
وهناك الاستعارتان (تقول: كفاكَ يا ولدي... وثال القول مشفوعًا بإيمان: ورب الكون لن أفنى...) فهما تجسيديتان لدمشق مرة في ثوب أمٍّ تكفكف الإثم عنها بحديثها المستجدي لولدها العاق، ومرة الصوتُ متجسدًا لدمشق مطمئنًا الجميع ما دام الربُّ لدمشق حافظًا وراعيًا.

ولدى "عباس علي داوود" صورةٌ حيةٌ نابضةٌ بالرؤيةِ الحسيّةِ متجسدة بالخيالات والتعبيرات المجازية وتكادُ أيها القارئُ تراها بالعينِ وتسمعها بالأذن وتستنطق من لسانك التعبير بالحالةِ الموصوفةِ بالمرار.

لكن التجربةَ مختلفةٌ في عين من قاساها بمرارتها كولدٍ مستقطعٍ من كبد الوطن. فالشاعرُ السوريُّ "بدر الحسين" يشتاقُ إلى وطنه ويرجو في أبياته العودة إلى ما كان عليه، لذلك كانت قصيدته (شوقٌ إلى الوطنِ) مليئةً بصورِ الجمالِ في ربوعه قبلًا.
فالشاعرُ يستجدي النسمات لتعيده إلى ذكرى تسلي الروح، فيرى نفسه طفلًا لا يستطيعُ البكاء على الوطن الذي يسألُ عنه من يقابله في الطرقات. فما له إلا أن يسافر في خياله لربما حطَّ بجناحيه على أرضه من جديدٍ كالطير حين يرحلُ عن موطنه ثم يعودُ إليه مرفرفًا فوق سمائه. والحكاياتُ تترددُ على فؤاد الشاعر وبه من الأشواق ما يُطَوِّفه طوال ليله بلا أملٍ يتمنى أن يلقى الوطن ويتحلى بالعطر من كفيه، ويتحدث معه عن الصبح والحقل حيثُ الزرع والخير والنماء والسعي وقت الإصباحِ يستحضرُهُ الشاعرُ متمنيًا الرخاء، ويحدثه كذلك عن سحر الأصيل عندما تضم الشمس منكبيه فينسابُ الشعرُ على اللسان من حلاوة المشهد. والوطنُ دفءٌ للمواطن حين يستشعر الأمان والسكينة في طرقاته والشاعرُ يستدعي ذلك الدفء الذي يسري في روحه ويذوب بناظري الوطن الكحل كما تكتحلُ الرجالُ والنساءُ لإبراز حلا العيون. وبعد هذا الجمال يتعجب الشاعر من اكتمال صورة الحسن في مخيلته عن الوطن المفقود فيرسل منه إلى نسسيم الصباح بلاغًا باشتياقه إلى هذا الوطن ومن يُقِلُّهُ لربما يلتقيه هكذا كما ارتسمت في عينيه صورته المثلى، وحينها يخفف عنه ما أوجعه من آلام ويجفف عن عيني الوطن دموعه.

وتختلفُ تجربة المواطن السوري عن تجربة المواطن العربي في الخصوصية التي رسمها الشاعرُ "بدر الحسين" بكلماته الواصفة، وجماليات صوره وألوانه البيانية لأرجاء الوطن. وهنا لا بد أن نشير إلى اختياره أيضًا للموسيقا الهادئة المتمثلة في حرفي القافية الياء والهاء، تلك الموسيقا الحانية التي تتناسب مع اجترار الذكرى والحنين إلى الوطن.

وفي تأملنا للصور البيانية من تشبيهات واستعارات في قصيدته نجد الصورة واضحة بألوانها الجميلة مرتسمةً في الأذهان فها هو في بدء أبياته يقول:
عسى النسمات تأتيني بذكرى
فتروي الروح من شوقٍ إليه
وهنا الاستعارة في أن أتى بالنسمات في صورتها التجسيدية كامرأة تحمل إليه الذكرى التي ترتوي بها الروح كالماء للظمآن.
ثم ينتقلُ بنا إلى التشبيه في حالة من يلقى من أشخاصٍ ينتمون لذات الوطن فيسألهم عنه كالطفل الذي تتعثر الدموعُ بمقلتيه:
وأسألُ عنه من ألقى كطفلٍ
تعثَّرَتْ الدمـــــوعُ بمقلتيْهِ
وفي تجسيده للوطن من بداية النص إلى منتهاه استعارة جلبت كل هذه الاستعارات والتشبيهات حتى أننا نجده يتمنى أن يُحَدِّثَ الوطنَ كأنما يتحاور مع صديقٍ غائبٍ عنه فنجده يقول:
أحدثه عن الصبحِ المندَّى
كذلك حين يتحدث عن سحر الأصيل حين يبوح بالشعر كتجسيد حي للصورة، وتتدرج الأخيلة حتى تصل إلى حديثه إلى نسيم الصبح لينقل بلاغه بالشوق إلى الوطن ليمسح عن مآقيه الدموع:
فبلغ يا نسيم الصبحِ شــــوقي
إلى وطني الحبيب ومَنْ عليهِ
عســــــى ألقاهُ يومـــًا ثم آسو
مواجعه وأمسح دمعــــــــتيه 

وقد غلبت الأساليبُ الخبرية على القصيدة إذ أنها في وصف الوطن والحنين إليه إلا في أسلوب التعجب من جماله.

وعلى بحرٍ آخر من بحورِ الشعرِ كتبَ الشاعرُ السوريُّ/ مصطفى عكرمة قصيدته "أُنسُ الوطن"، فمن الشوق إلى الوطن في قصيدة الشاعر السابق تحملنا الصفحات في نهاية العدد تقريبًا إلى الأُنسِ بهِ.

والغريبُ أن الشاعرَ افتتحَ قصيدته بالحالة الكئيبة التي صار عليها أغلبُ هاجريه، ولكنها حالةٌ ارتبطت في مخيلة الشاعر بفقدانه للوطن حيث يستهل القصيدة به وكيف صار الحال من بعدِهِ وعلى الرغم من تلك الحالة لا تغيبُ صورةُ الوطن عن أحداقهم ولو طرفة عين، ومهما طاب بهم العيش بعيدًا عنه لا يرتضون بغيرِهِ وطنًا حيث يطيبُ بهِ مقامهم. فلا معنى للنعيم بغير هذا الوطن وعلى أرض غير أرضه ولو كان نعيمًا يُشتهى. ترابُ هذا الوطن هو من رفاتِ الآباء والأجداد فلا أحب علينا منه. ولا عتبَ ولا لومَ على ذلك، فالأرضُ لا يدركُ لها محبةً إلا كلُّ حرٍّ فطره الله على حب وطنه. فالوطن ساكنٌ في الوجدان مهما غاب عنه مواطنوه. فالروح تناجي ربها متوسلةً العودة إلى الشام. وتظل تستجدي من الله وتتوسلُ بإجابته كل داعٍ سؤله. وباليقينِ بإجابةِ الدعاء يختتم الشاعر أبياته.

لم تتعدد الصور والأخيلةُ في القصيدة كما في سابقتيها فقد غلبت على القصيدة الأساليب الإخبارية والجمل التقريرية، إلا من بعض الأساليب التي سنوردها، ولكن الأبيات لم تخلُ من ألوان البديع. ففي البيت الأول:
وطنٌ غدونا بعده أغرابا *** ما غاب عن أحداقنا ما غابا
التصريع واضحٌ جليٌّ باتفاق نهايات الكلمتين: أغرابا، غابا. وهناكَ في البيت الثالث تضاد واضح في كلمتي: نعيم، عذابا.
أما آخر أبيات القصيدة نجد في مناجاة العبد لربه وتوسله الأساليب الإنشائية, فالشاعرُ يستفهم من الله مستنكرًا أن يكون غير مجيب لدعائه ويعودُ فيما بعده من أبيات ليقر حقيقة ما أنكره عن رب العالمين من عدم إجابته الدعاء فيؤكد بيقين شديد أنه سبحانه لا يرد الدعاء وحاشاه أن يفعل ذلك.
الحالةُ السائدةُ في أبيات الشاعر جعلته يختار القافية العالية في الباء المفتوحة حتى يُسمعَ الآخرين شجونه ويفخر بوطنه واعتزازه به على الرغم من تقديم اللوم والعتاب عليه.

التجاربُ الشعرية الثلاثة مختلفة لكنها تثري القضية وتلهبها بجزيل المعاني والألفاظ والأخيلة. وقد وفِّقَ كل شاعرٍ في عرضِ قضيته من خلال تجربته الشعرية إلى حدٍّ بعيد.

ليست هناك تعليقات: